!! قصص في زمن الغبار – 4 !!
أفريل 5, 2009 بواسطة عابر سبيل
! موت في تل أبيب !
بقلم : عابر سبيل
عندما ينتحب القلب, تنوح عليه أو بسببه, أعضاء الجسد كافــّـه.. تذبل العينان .. والوجه ينحسر عن جلده الدم .. تضعف عضلات العنق .. والمعدة تفقد كل شهيتها.. ها هو رأسها الصغير ثقيل ثقل الهم.. وعيناها ينز منهما ماء الدمع, رغم اشتعال محجريهما سهرًا وحزنًا.. تنظر أسفل منها, فترى مرجًا شاسعًا من النجوم.. أضواء بنايات المدينة وسياراتها تمتد ملء المدى.. بعضها قريب وساطع كأنه يتحدى.. وبعضها قد أصابه اصفرار الشحوب, كأنه يفنى.. بعضها ثابت.. وبعضها يجري قليلا ثم يختفي كأنه شهاب تهاوى..
من يعرفها هنا..؟ من يشعر بوجودها..؟ من يفهم لغتها..؟ من يأبه لها..؟ وحده البحر.. كانت تمشي بأحلامها فوقه كل ليلة, حتى تصل بيتها, على شاطئ البحر ذاته, في مدينتها التي كانت, وقت تركتها, تغرق في حصار الظلام.. أليس مفارقة أن يتمنى المرء أحيانا لو يلفظه الضوء إلى جوف الظلمة..؟
لم يسمحوا لزوجها بمرافقة ولدهما ابن الثامنة لتلقي العلاج هنا.. أوقفوه عند المعبر .. قالوا له بفظاظة : ‘أنت , إلى هنا’..
عانقت أطفالها الثلاثة الآخرين, الذين تعلقوا بذيل فستانها.. وبكت.. بعدها ودعت زوجها, وبأطراف أناملها مسحت دمعتين جالتا في زوايا عينيه.. وجاءت..
على مدى سبعة أيام متواصلة حاول أطباء مشفى “ايخيلوف” الشاهق البناء والكفاءة, في تل أبيب, إنقاذ حياته, لكن دون جدوى.. كانت أحشاؤه قد تهتكت كليًا بفعل الإصابة..
“مات رجاء” قالت لزوجها عبر الهاتف, وسقطت السماعة من يدها, لتجهش في بكاء صامت, مثل حرة عربية تم المساس بكرامتها..
كيف فاجأها الموت هكذا.. وحيدة.. بعيدة.. غريبة.. وبائسة..؟
قبل ولوجه الباب الرئيسي للمشفى, حوالي التاسعة صباحًا, صحبة زوجته وولدهما , لإجراء فحص معين للولد, لمحها هناك.. على المقعد الحجري وحدها..
بعد ساعتين, وقت خرجوا من نفس الباب, كانت ما تزال متحجرة على نفس المقعد.. عاطلة عن الأمل..
توقف.. كرر النظر.. كان هندامها وذكاؤه كافيين ليجزم أنها من هناك.. هاتف غريب شهق في أعماقه أنها تتستر على مصيبة..
أومأ لزوجته وابنه فيمموا كلهم صوبها.. عندما صار في مواجهتها تمامًا تأكدت ظنونه ..
كانت في أواسط الثلاثينات.. وكان في عينيها أسى مثل أسى الذي يحمل في قلبه كل أحزان البشرية.. نظراتها منهكة كأنها فقدت أي وقت للحياة.. عندما تكلمت كان لصوتها نبرة من تتوسل القدر لكنس شوارع أحزانها.. تلك الأحزان اللحوحة كهاتف يرن ولا يرفعه أحد..
قالت إن ولدها يرقد في ثلاجة الموتى منذ ثلاثة أيام.. لان السلطات هنا ترفض نقله, بحجة أن السلطات التي هناك, من الجهة الأخرى للمعبر, لم تقم بالترتيبات والتعهدات المناسبة .. تتوسل حارس بهو الأموات لتلقي على الجثة نظرتين أو ثلاثا كل نهار.. امّا في الليل فتقف لساعات على شرفة الطبقة الثانية عشرة للمشفى.. كأنها على أرجوحة معلقة في السماء.. لا لتبكي .. فهي قد غدت في حالة تحسد فيها من يستطيعون البكاء.. بل لتنتظر, مصغية لهدير ذلك المخلوق المتمدد بكسل حتى بيتها .. وحده البحر كان قادرًا على التعاطف مع تشرد وجدانها..
لم يفكر كثيرا.. هو كان يؤمن أن إعمال العقل قد يحرم الرجل, في بعض المواقف, متعة أن يكون رجلا .. بل ويعرف أن أكثر المواقف نبلا في حياته كلها كانت تلك التي تبنّاها دون إجراء الموازنات العقليه..
طلب من زوجته اصطحاب ابنهما وانتظاره في المرآب حيث السيارة, فيما اصطحبها إلى الداخل .. ساعدته مواطنته , تجربته ولغته , على إتمام إجراءات تسريح الجثمان بسرعة .. أخذ الأوراق وطار نحو ثلاجة الموتى, وهي في أثره, لا تكاد تلحقه.. طلب منها أن تشير له نحو الجارور حيث الجثة .. سحب الجارور برفق .. أشار إليها لتلقي على وجهه نظرة, لتفادي أي خطأ قد يقع.. اتصل بزوجته طالبًا منها إدخال ولده إلى السيارة كي لا يراه حين يصل.. وأن تحاول التخلص مما في الصندوق الخلفي للسيارة من خلال إلقائه في أقرب صندوق للقمامة.. رفع الجثمان بين ذراعيه ومشى .. مدده في الصندوق .. ولما ركبوا جميعًا, قالت له زوجته, التي لا تكاد تصدق ما ترى:’ إلى أين ‘؟ قال : ‘إلى غزه’..
لم تناقشه, لأنها كانت تعرف انه مهيأ ليفعل ما هو أكثر جنونًا, أو شهامة, ولكنها اقترحت: ‘ بل أوصلني والولد إلى محطة القطارات.. نسافر إلى البيت وحدنا .. لا تخف علينا..’.
انطلق بسيارته جهة الجنوب.. تجلس خلفه امرأة نصف ميتة.. ووراءها يرقد طفلها الميت ..
حوالي الرابعة عصرًا كانا على المعبر.. لكنهم كانوا قد أغلقوه, بحيث لا يسمحون لأحد, ولو لجثمان, بالدخول أو بالخروج.. أجرى عشرات المكالمات الهاتفية .. أشرك في الموضوع نواب برلمان وشخصيات أخرى..
في السادسة والنصف تمامًا, كان ‘رجاء’ ممددًا في صندوق سيارة أجره.. وراء الحاجز الحدودي.. وكانت هي تقف إلى جانب السيارة..
مشت إلى الوراء, باتجاهه, بضع خطوات.. قالت , من وراء الحاجز : ‘ما اسمك ‘؟ أجاب : ‘ وماذا يهم ؟ ‘.. تمتمت بشيء لم يسمعه جيدًا.. ولن يعرفه إلى الأبد .. رفعت كفها الصغيره تودعه.. رآها لأول مرة تبتسم .. كمن أحست أخيرًا بالطمأنينة.. تماسك إلى أن بدأت سيارته تنهب الأرض باتجاه الشمال.. وأجهش يبكي..
أرسلت فى قصص في زمن الغبار | 23 تعليق
أحيانا تفاجئنا الحياة بإختبارات قاسية , صعبة ولا منطقية.. تضعنا في مواقف ليس لنا التفكير في ماهيتها , وعلينا رغم ذلك التصرف وإنقاذ ما يمكن إنقاذه .. علينا مساعدة الغير في حين نكون ايضا بحاجة لمن يساعدنا وهنا تأتي الفضيلة المسماة (الشهامة) .. تجعلك تنسى نفسك وتؤثر مساعدة امرأة وحيدة حملت من الهموم ثقل الجبال..
بطلنا هذا نسي نفسه , زوجته وابنه_ اللذين باعتقادي هم ايضا بحاجة له_ وسافر مع المرأة الغريبة ليوصل ابنها الى بيته الأخير علّه يرتاح اخيرآ ..ولعل البراءة المذبوحة على يد جلاديه وجدت في مأواها الأخير ما يقرّ عينيه…
يعرف متابعوك ان قصتك حقيقيه .. ولكن صياغتها أجمل ما فيها .. والأروع من القصة واسلوب السرد , هو بطلها الشهم ..
ادامك الله بتميزك وقلمك…وأدامك لاحبابك
أحياناً القلم يكون أقوى من اللسان في الوقت الذي يعجز اللسان عن الكلام ..
أمير الأقلام ..!
قلمك أقوى للتعبير عن المشاعر من ( غضب ,, وسعادة ,, وحب .. وألم ,, وفراق )
هكذا عودتنا على تنوع كلماتك وحروفك لكي نكتشف
تعابيرك وشخصيتك الجميلة..
دائما أحرص أن أكون من أوائل المارين هنا,
لأتمعن في نبضك وأحساسك..
،
،
كان أكثر ما اعجبني كيفية تصويرك للحزن وتأثيره على الروح والجسد، أما اسلوب السرد والقصة والفكرة ذاتها تجعلني اشعر كأني معهم هناك ، اعايش ألمهم ،
،
مأساة تتصدى لها شهامة نادرة تعيد الامل والرجاء،
– – – –
عابر سبيل ، وجودك يبعث الطمأنينة في النفس،
رعاااك الله ووفقك لما يحبه ويرضاه.
السلام عليكم
قصة رائعة جدا اخي عابر سبيل
ومؤثرة باسلوب جميل ومشوق
اعجبتني جدا لدرجة اني سمحت
لنفسي نقلها لموقع اخر باسمك!
ولك ارق تحية وسلم قلمك المبدع
مساء الورد للجميع
عدت مرة اخرى لاقف عند هذه القصة التي اثرت بي كثيرا رغم اني قرات قصصاً اكثر الما وحزناً من جراح الوطن..
ربما لأني كنت غريبة ووحيدة حقبة ليست قصيرة!!
لاني عشت احداث مشابهة لكن بشكل معاكس..
فأنا من هنا.. وكنت هناك.. تحت الحصار.. خلف الدمار
اينما يقبع الاحرار في جبال النار.. وكانت قبلتي دائما
بلدي الحبيب الذي عشقته.. لكني اكتشفت ان الوطن
بات سرابا!! بات وهما كذاباً!! هنا وهناك.. واينما نكون
لن نكون..ونحن وسط الذئاب.. وسط غاب منَّا قبل الغرباء!!
هي عادت… وانا عدت…
لكني أبدا لن أكون مثلما كنت!!
هي وجدت من يمد لها.. يد الحنان
وأنا لم أجد أحداً.. ولا ذرة من الآمان
بعدما سقطت الأقنعة.. عن كل الخلان
وجفَّ السراب لتظهر حقيقة الإنسان
في أرض غدر بها الزمان وأطعمها الأحزان
ورغم ذلك سأظل اعشق الناس والأوطان
وسأظل وفية لذات العنوان.. لأسمى الأديان
وعذرا على الهذيان!! إمرأة من زمن الشجعان
وتحية فلسطينية لك من القلب
وإن لم نلتقي يوماً بنفس الدرب
أخي الفاضل عابر سبيل
وقلم ينهل ماء سلسبيل
أخي عابر سبيل
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذا الأسى .. لا يجيد سكبه الا قليلون ..
أتعرف ؟ .. خيل لي أنني أمام الشخص الذي كتب “عائد إلى حيفا ” !!
أخوك / احمد
الواقع الذي يشهده أولئك الأبطال مليئ بالتعقيدات, التي تجعل منه مرتعا خصبا لكل قصة ورواية، إذا التقى ذلك مع من يجيد السبك، تخرج للنور قصة مثل هذه..
بورك قلمك
الغالي عابر سبيل:
لولا أني لا أدري أن هذه القصة حقيقية, لقلت إنها خيال, فقلّة ما نجد في يومنا هذا رجل, شيمته ورجولته تفوق الحدود لدرجة انه لا يفكر مرتين, -كي لا يفقد لذة التمتع برجولته-.
أذكر أنه عندما نشرتها للمرة الأولى أعدتُ قراءتها مرات ومرات, وها أنا الآن أعيد قراءتها مرة واثنتين وثلاثة..
جميل سردك للقصة ووصفك البطل, منذ بداية وصفك إياه, ما توقعتُ نهاية غير هذه, غير أني أسائل نفسي..
عندما سألتَه ما اسمك, أجابها: “وماذا يهم”. ما الضرر لو قال لها اسمه, فكما قلتَ “تمتمت بأشياء لن يعرفها إلى الأبد” إذاً, هو لن يلقاها أبداً.. ما الذي سيتغير لو قال لها اسمه؟ لا أفهم إصرار البعض دوماً على عدم البوح بأسمائهم ..!!
على كل حال, سردك للقصة رائع وجذّاب, وساحر.. أحيي في كتاباتك روح الرجولة والشهامة المفرطة..
لا تحرمنا من هكذا قصص.. دمتَ بخير
آآه أيها الصديق ..
قصتك تحرك المشاعر ..
ما أسمى شهامة هذا البطل ومروءته..
ما أحوجنا لأبطال مثله في زماننا هذا..
زمن الحيف والجور..
وآه أسفاه على قلوب شبابنا المتحجرة.. كم نفتقد الشهامة في زمننا.. والأسوء أن النذالة أصبحت -موضة- في هذا الزمــن..
كما عهدتك يا صاحب القلم الجميل.. سردك رائع ولا يُمّل ..
وأنت تعلم أن معدنك فريد ونادر… أدامك المولى لـنـا..
سلامي إلى أهل فلسطين الحبيبة
إلى من صنعت الظروف منهم أناسا مبدعين
…
سلامي إلى من ناحت عليهم الأقلام …
تعجز الحروف أن تصف …و الكلمات عن التعبير
عندما ينتحب القلب, تنوح عليه أو بسببه, أعضاء الجسد كافــّـه.
ـــــــــــــــــ
أخى المبدع الراقى: عابر سبيل
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
رشاقة قلمك وقدرته على التعبير والتصوير
جعل الكلمات على سطح الصفحة حياة تتحرك
وشخوص تتفاعل ووجدت نفسى داخل الأحداث
أعيش آلامها وسكناتها وحركاتها بكل كيانى ….
تقبل أخى تقديرى واحترامى
بارك الله فيك وأعزك
أخوك
محمد
أخي الكريم عابر
قصتك هي المروءه في زمن فقد الشهامه ..
والرجل رجل ليس بكونه ذكرا .. ولكن من المواقف التي يتخذها ..
رجل والرجال قليل, بطل قصتك..
وما الحياه الا مواقف تصنعنا وتكون لنا علامه مميزه فيها ..
قصه آلمتني , وتؤلم كل من يقرأها , لانها تحكي معاناة شعب ليس له ذنب الا ان طمعت في ارضه احقر شعوب الارض..
واصل ابداعك عابر .. ويشهد الله انها حقيقه وليست مجامله ..
ان لك قلم يصل بالقصه الى القلب ..دمت في حفظ الرحمن..
الغاليــه أمل..!
يظل في جميع المدونات شيء ناقص إلى ان تمري فيها..
بوركت..
الغاليـــه ابتسام ..!
وأنا والله احب مشاركتك الطيبه , فلا تتركيها..!
الغاليه قريـــبه ..!
ظروف معينه لا تترك لك ألا خيارا وحيدا ..
كأنها تمتحنك ..
أو تتآمر عليك !
ابقي قريبه ..
الغاليـــه ريـــما !!
كأنني شرّعت نوافذ جرحك للريح ..
عمومـــا , ” كلنا في الهوا سوا ” !!
اشكر لك مرورك ..
الغالي أحمد…!
أترى يعود الغائبون ؟ رحمة الله على ” غسان”..!
هل كان قدراً أن نموت
في الغربة .. مجهولين ..
لا يعرف أحد جثثنا
عراة من الدفء والأصدقاء ..
مبعثرةً أحلامنا في الريح
كالرسائل الممزقه ..!
لنا الحزن
والنساء اللواتي تحجرن في القهر ..
لنا النوافذ المطفئه..
يا ربنا !
لماذا خلقت لنا الأعناق
ولهم خلقت حبال المشانق..!؟
هم يعيشون ..
ونحن نموت عند الحواجز ..
مثل الذباب ..!
لماذا استكثر الناس علينا
أن نعود لنموت
ولو مصلوبين فوق مداخل
قرانا الحزينه …؟
الغالي عمران.!
بارك الله فيك ..وشكرا لمرورك وكلماتك الطيبه..
الغاليـــه نور ..!
مبروك معدل مئه في الشهاده !! وهل اتوقع منك غير ذلك !!
تذكرين طبعًا أن سؤالك هذا طرح فيما سلف , وربما بالحاح أشد , :
لماذا لم يخبرها باسمه ..؟!!
يا صديقه – قد كان الذي مر في رأسه وقتها , أعظم من أن يتيح له التفكير في الاسماء..
كان الاسى قد حرق القلب وسد وجه السماء ..
قد يكون أخطأ..
وقد تكون قرأت , او ستقرأ قصتها هنا !!
الغـــاليه رناد ..!
أحيي واحترم فيك هذا الوعي والادراك لمشكلة ضياع جيل كامل !!
نحن نحتاج يا صديقة تيهًا اطول من تيه بني اسرائيل , ليتغير الحال..
لا تحرمينا من مرورك..
الغالـــيه بريق .!
بالأصالة عن نفسي , وبالنيابة عن جميع ابناء فلسطين , أحييك , ونرحب بك كلنا ضيفة في بلادنا..
بريق ! فلسطين , وإن نسيها العرب , من اجمل بقاع الارض والله ..
الغالي محمد ..!
وعليك سلام الله ورحمته.. وسلمه وسكينته..
يشرفني مرور اصحاب الاقلام الملتزمه امثالك – ومدونتك تشهد – عندي.
وكيف لا تكون كذلك وانت ابن بلاد هبة النيل !
الغاليـــه بوح ..!
رقيقة ودافئه هي كلماتك..
صعبة هي الحياة يا أخيّه ..
مع ذلك , ولا يهمك .. ما زال فينا قوة فوق ما يتصور , او يتمنى ! , المرجفون..